بقلم: أ. منتهى أفندي
التوطئة : امتياز الدعوة إلى الإسلام بأندونيسيا
لقد انتشر الإسلام في أندونيسيا بالطريقة التي هي أحسن الطرق للدعوة الإسلامية جيلا بعد جيل في التاريخ العربي الإسلامي، ذلك أن الإسلام قد انتشر فيها بفضل التجّار والمتصوفة والطريقة الأخرى لاعلاقة لها بالفتوحات العسكرية، كما انتشر في الدول الأخرى، وأصبحت أكبر الدولة الإسلامية في العالم من حيث العدد.
ويتحقق ذلك بفضل دعوة رجال التسعة wali songo الذين تابعوا باستمرار منهج دعوة التجار والمتصوفة إلى الدين الحنيف. ذلك أنهم استخدموا منهجا تثقيفيا acculturation method. فالرجال التسعة بنوا “قاعة العبادة” لأداء فرائض الله وسموا هذه القاعة بـاسم “langgar”، واعتمد هذا الاسم على اسم قاعة العبادة لدى معتقدي كافيتيان kapitayan، وهي sanggar، ولم تستخدموا أيضا كلمة “الصلاة” كما اصطلح عليها الفقهاء؛ لأنها عربية، بل استخدموا كلمة “sembahyang” محافظة على ما اصطلح عليه أهل كافيتيان Menyembah Sang Yang، وما إلى ذلك .
وقد حافظ مديرو المعاهد للعلوم الشرعية – التقليدية منها أوالحديثية – على منهج رجال التسعة بعد انتهاء عهدهم إلى حد الآن. وانطلاقا من هذا الواقع التاريخي، ليس من المستغرب أن تكون أندونيسيا من أكبر الدولة الإسلامية التوسطية والتسامحية.
المعهد مدافع لوحدة الجمهورية الأندونيسية المتحدة NKRI
لقد اتضّح الأمر من أن المعاهد التقليدية في عهد استعمار الأروبيين واليابان ليست فقط مجردة مؤسسة تعليمية للعلوم الدينية، وإنما هي أيضا مركز اجتماع الأبطال الأندونيسيين الذين ناضلوا من أجل حرية البلاد واستقلالها ضدّ الاستعمار.
المقصود هنا “المعاهد التقليدية Pondok Pesantren Tradisional” التي اندمجت في جمعية نهضة العلماء منذ تأسيس هذه المؤسسة الاجتماعية الدينية.وبالتالي، إننا عندما نتحدث عن المعاهد، في هذه المقالة، فإننا نتحدث تحديدا عن نهضة العلماء في آن واحد؛ لأن نهضة العلماء قد تؤسست على يد مدير معهد تيبو إيرنغPondok Pesantren Tebuireng بشكل خاص، ومديري المعاهد الأخرى بشكل عام. والشيخ هاشم أشعري والشيخ عبد الوهاب حسب الله — فكلاهما يعتبران رائدين لجمعية نهضة العلماء.
والتزم مديروا المعاهد (أو يمكن أن يقال بأسلوب أخر: التزمت جمعية نهضة العلماء) بالدفاع عن اتحاد الدولة إلى حدّ الآن، واتضح ذلك من خلال اعترافهم بـPancasila كأساس الدولة وفلسفتها، مع أنّ الجمعيات الاجتماعية الدينية الأخرى لم تعترف بها كالأساس للدولة في تلك الوقت.
وحاصل ما تقدم ذكره أن للمعاهد (أو NU) مساهمة في دفاع اتحاد الدولة جيلا بعد جيل، وذلك باستمرارها منذ عهد الاستعمار حتى يومنا هذا.
ولنا أن نسأل الآن: فيما تتمثل مساهمة هذه المعاهد في الدفاع عن اتحاد الدولة في وقتنا الراهن، وخاصة إثر تهديد “الداعش” ببيعة الخليفة للمسلمين، والحركات الإسلامية الأخرى كالحركة الإسلامية “التكفيرية” التي تريد أن تغير نظام الدولة الديمقراطية للجمهورية الأندونيسية بنظام الخلافة الإسلامية؟
والجواب على هذا السؤال بسيط وواضح جدا. إن مديري المعاهد لن يتصدوا لهذه الحركات الجهادية التكفيرية بالعنف المادي كما كان عليه الحال في زمن مقاومة الاستعمار دفاعا عن استقلال الدولة، ولكن مساهمة المعاهد في الدفاع عن الدولة، في أيامنا هذه، تتمثل في تعليم الطلبة شتى فنون المعرفية الحديثة، وليست فقط العلوم الدينية – من الفقه وأصوله والحديث وعلومه والتفسير وعلومه وغيرها— بل هي بحاجة ماسة إلى تعليم الإنسانيات بفروعها المختلفة والعلوم المعرفية الحديثة الأخرى.
وذلك لكيلا تتأخر جمعيتنا عن جمعية أخرى حتى تستطيع أن تنتشر في عديد من المجلات المختلفة، وليس في مجال ديني فحسب. وحتى تشارك أيضا في حماية الدولة من التفكك الوطني من جميع النواحي.
زيادة مواد الدراسية الجديدة في مجال العلوم المعرفية لايعني ذلك حذف المواد الدراسية الأساسية التي تتمثل في العلوم الدينية أوإنقاص بعض منها، بل إن المعاهد قد حاولت الأخذ بالجديد الأصلح مع المحافظة على تراثها القديم الصالح، وذلك عملا بالقاعدة الشهيرة لدى رواد نهضة العلماء، ”المحافظة على القديم الصالح والأخذ بالجديد الأصلح.”
وبالتالي فإن هذا الإجراء الجديد الذي يدمج العلوم المعرفية الحديثة مع العلوم التقليدية سيساهم في رقي وتطور السلك التربوي التعليمي الذي سيساهم بدوره في الرقي بالبلاد دون اللجوءإلى العنف كما كان الحال عليه في السابق خاصة في التصدي للحركات الإسلامية التكفيرية التي ظهرت بعد الثورة 1998.
وانطلاقا من هذا الإجراء التعليمي، نلخص إلى أن المعاهد قد حاولت أن ترتقي بالمستوى المعرفي والعلمي للطلاب، وذلك من خلال الاهتمام بالجانب الديني والجانب العلمي، حتى يتسنى لهم مواجهة الأفكار الظلامية التي تعمل على نشرها كل الحركات الإسلامية التكفيرية التي تهدد وحدة الدولة الإسلامية وتحاول نشر الفوضى فيها إلا أن هذا لايتطلب فقط إصلاحا تعليميا في المدارس بل يجب أيضا على خريج المعاهد أن يواصلوا هذه الأفكار التنويرية عند التحاقهم بمقاعد التدريس في .
وباعتماد على إدخال فنون المعرفية الحديثة مع محافظة على التراث القديم من المواد الدراسية، بطبيعة الحال، ستكون موارد بشرية أعضاء جمعية نهضة العلماء تفوقا حتى يمكن لها أن تشترك في دفاع الدولة عن تهديد التفكك الوطني بطريقة جديدة، وليست بطريقة الحروب كما هي الحال في عهد الاستعمار، بل بتعليم الشباب وحفاظهم عن أفراط سواء كان الإفراط يساريا أم يمينيا، كما انتشر في عديد من الجامعات ببلادنا منذ زمن، وخاصة، تبلورت حركة الإسلامية التكفيرية بعد الثورة في 1998 للإفرنجي.
واتضح الإجابة على السؤال فوقه، من أن مساهمة المعاهد في دفاع اتحاد الدولة هي بتعليم الأجيال الجدد دينيا ومعريفيا كي يكونوا ذوي الموارد البشرية المتفوقة ولم يتأثروا بفكرة إفراطية، وخاصة فكرة التكفيرية التي تهدد اتحاد الدولة بما سمي بـ”الدولة الإسلامية”. ولكن التعليم لايكفي فقط داخل المعهد بل بحاجة أيضا إلى تعليم الطلبة في التعليم العالي، فلابد للخريجين من المعاهد أن يدرسوا في التعليم العالي. وهذا الهدف يتطلب إلى طلبة المعاهد أن يواصلوا دراستهم إلى الجامعات القيمة، وليست فقط في الجامعات بأندونيسيا بل في شتى الجامعات في العالم.
وهذه الظاهرة التي تحفزني إلى أن أصبح مدرسا للتعليم العالي بعد حصولي على شهادة الماجستير كي أشارك في تحسين موارد البشرية للأجيال لدى أعضاء جمعية نهضة العلماء على شكل خاص، والأندونيسيين على شكل عام. وذلك، يعني أن اتحاد الدولة لايمكن حفظها من تهديد التفكك إلا بتحسين موارد بشريتها، ولن يتحقق ذلك حتى يتحسن التعليم في أندونيسيا.
أ. منتهى أفندي مدرس اللغة العربية بمعهد الشافعية للعلوم الشرعية، وطالب اللسانيات العربية بكلية الآداب والفنون والإنسانيات بمنوبة.